بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كثير منّا أهل الإسلام وأيضا النصارى يجهلون الموجود عند اليهود في كتبهم ويعلم كلنا أن القرآن الكريم كتاب الله الوحيد بدون تحريف تكلّم عن مقالاتهم ويسأل الكثير عن أصل هذه المقالات هل هي موجودة فعلا ؟
ويبدأ في إتهام القرآن بإختلاق الأقاويل على اليهود وأن اليهود لا يقولون ذلك !!!
هذا واقع فعلا لا محيص عنه ولا ينتطح فيها عنزان
ولكن !!
ألم يتفكر السائل أو المعترض أن النبي عليه السلام كان يعيش وسط اليهود ولم ينكروا عليه مقالاته ؟
ألا يعني سكوتهم هو حقيقة الأمر في ذاته إذ كانت لهم شوكة وقوة وغلبة ؟
دعونا ننظر في أمر لفت نظري وأظنه جديد على معظمكم والله أعلم
قال الله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} سورة المائدة
هل حقيقة قالت اليهود ذلك ؟
ننظر أولا في أقوال مفسرين الإسلام في تناولهم لهذا الأمر وهي مقدمة مهمة جدا لفهم ما سأذكره لكم من كلام اليهود أنفسهم
ملحوظة: سأختصر أقوال المفسرين الكبار حرصا على عدم الإطالة مع بقاء الإفادة
قال الطبري رحمه الله : احتجاجاً لنبيه محمدصلى الله عليه وسلم بأنه له نبـيّ مبعوث ورسول مرسل أن كانت هذه الأنبـاء التـي أنبأهم بها كانت من خفـيّ علومهم ومكنونها التـي لا يعلـمها إلا أحبـارهم وعلـماؤهم دون غيرهم من الـيهود فضلاً عن الأمة الأمية من العرب الذين لـم يقرؤا كتابـاً ولا وَعَوْا من علوم أهل الكتاب علـماً فأطلع الله علـى ذلك نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم وسلـم لـيقرّر عندهم صدقه ويقطع بذلك حجتهم..
* يذكر هنا الطبري أن هذه الأقوال أطلعها الله على عبده ورسوله محمد عليه السلام دلالة على الوحي وعلى نبوته لأن هذه الأقوال لا يعلمها إلا الأحبار والعلماء فقط دون غيرهم من اليهود .
لذلك لا نتعجب من إنكار بعض جهلة اليهود علينا وتشبه النصارى بهم في الإنكار فتأمل !!!
ثم يقول الطبري رحمه الله : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } يعنون: أن خير الله مـمسك، وعطاءه مـحبوس عن الاتساع علـيهم
فقال: { وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ } يعنـي بذلك أنهم قالوا: إن الله يبخـل علـينا ويـمنعنا فضله فلا يفضل، كالـمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف
إذن: قالت اليهود ذلك لأنهم يقولون أن الله يحبس فضله وعطاءه عليهم لا على غيرهم فتنبه .
قال الطبري رحمه الله بإسناده حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ: { وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِـمَا قالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ } قالوا: إن الله وضع يده علـى صدره فلا يبسطها حتـى يردّ علـينا ملكنا.
إذن: المقصود بمغلولة هنا : إنه لا يبسطها بإرجاع الملك لهم
معنى هذا بالمنطق أن هذا الكلام قالوه في حالة الشتات والخزي لهم لا في حالة الملك .
وقال آخرون منهم: بل يده ملكه وقال: معنى قوله: { وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ }: ملكه وخزائنه
قال القرطبي رحمه الله
قوله تعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }. قال عِكْرمة: إنما قال هذا فنْحَاص بن عازُوراء لعنه الله وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قَلّ مالهُم؛ فقالوا: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء؛ فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا.
إذن : هو قول لخاصتهم أي كبراءهم وأحبارهم ولما قالوها ولم ينكر باقي اليهود ممن سمع المقالة هذا الأمر كانوا كمن قالها بالضبط لأنهم سكتوا والأصل في السكوت الرضى .
قال إبن كثير رحمه الله
عن ابن عباس قوله: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون: بخيل، يعني: أمسك ما عنده، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك
قال إبن عاشور رحمه الله
فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجَهد، فقال فنحاص بن عَازُورا هذه المقالة، فإمّا تلقَّفُوها منه على عادة جهل العامّة، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به
إذن: هو قول لحبرهم فقلدوه
ولكن هل هذا الحبر فنحاص مسبوق بنفس المقولة أم هو من إختلقها ؟
وذكر محمد رشيد رضا رحمه الله
وروي عن السدي في قولهم ومرادهم، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا، وروي عن ابن عباس في معنى عبارتهم أنه قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده .
فالمسألة عندهم كلها مدارها على الملك والغنى
هذه هي الأقوال المشهورة ذكرت طرفا منها مع نسبتها لقائليها وناقليها
فهلم ننظر عند اليهود ونرى أصل هذا القول الشنيع القبيح قبّحهم الله
الأصل التناخي
سفر مراثي إرميا 2 : 3 (رَدَّ إِلَى الْوَرَاءِ يَمِينَهُ أَمَامَ الْعَدُوِّ )
رد إلى الوراء أي إمتنع عن العطاء وهذا النص قيل في حالة ندب تدمير الهيكل الأول وضياع ملك بني إسرائيل
كما قلنا سابقا: إن المسألة كانت على الملك والحكم
يقول الحاخام روبن فايرستون و ستيفن ستاينلايت في هذا النص الآتي :
إن الله قد عاقب إسرائيل برد يمينه من الدفاع عن القدس ولا يوحي هذا المقطع بأي حال من الأحوال أن الله عاجر أو ضعيف , بل بالأحرى أن الله إختار بكل بساطة منع الحماية الإلهية .
وهو عين قول إبن عباس : : ولكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده .
في المدراش في مراثي رباه ( آخر 2 : 6 ) يقول ما نصّه " غلت يمين الله " .
يقول الحاخام روبن تعليقا على هذا النص : يقترح هذا التفسير مجازا لا حرفيا أن الله غل يمينه عن قصد .
وورد في كتاب (حانوخ) الآتي : قال لي الحاخام إيشمائيل : تعال معي وسأريك يمنى الموجود المطلق (الله) التي غلت وراءه بسبب تدمير الهيكل .
فالخلاصة: اليهود على قولين في المسألة
الأول: قول مجازي أي إن الله إمتنع عن حماية أولاده ومسكن قدسه وتركهما للأغيار .
الثاني: قول على حقيقة اللفظ أن الله فعلا غلّت يده وإمتنعت إما خوفا أو أي شيء آخر .
وأتذكر في هذا المقام مناظرة حدثت بين حاخام من الناطوري كارتا أو الساتمريم ( يهودي أرثوذكسي ضد الصهيونية) وبين أحد من اليهود المحافظين ( مؤيد للدولة الصهيونية )
وقال في هذه المناظرة التي جرت بينهما : أنه لا حق لأي يهودي في تكوين أو العمل على قيام دولة لإسرائيل حتى يأتي المسيا وذكر له ما فعله باركوخبا وما جر عليهم من الويلات والآلام والتشريد والتقتيل وفناء المجد المتبقي لليهود وقال له ما ترجمته ( إنك بفعلك هذا تلوي يمين الرب ) .
يقصد بهذا الكلام هو أنك تريد أن تضع الله في سياسة الأمر الواقع فيستجيب لفعلكم ويبعث المسيا !!
كتبت هذا الرد لتثبيت المؤمنين على إيمانهم بصدق كلام الله في القرآن
وردّا على سفاهة أي سفيه في إعتراضه علينا ولأني وجدت الردود في هذا الباب ضعيفة لا تصلح للرد والإقناع
كتبه أخوكم/ محمد المعتز بالله