الحمدُ لله الكريمِ الوهاب، القائلِ في أولِ الكتاب: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: ٧٥ - ٧٩].
وصلى والله وسلم على نبيه المُصطفى، وحبيبه المُجتبى، قال كما روى عنه أبو موسى: «إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَتَبُوا كِتَاباً فَاتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا التَّوْرَاةَ».([1])
ورضي الله عن الصحابةِ الأخيار، والسادةِ الأبرار، ومنهم ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال في تفسير قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: ٧٨]. «إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه».([2])
أما بعد:
بعد الانتهاء من دراسة أحد نصوص الكتاب (المقدس) لابد أن يغالبَك شعورٌ بأن نصَّ الكتابِ (المقدسِ) مبني على الاجتهادات؛ فهذا يرجح كذا، وآخر يخطئه، وغيرهما يستسلم للعجز، وإذا كان هذا النصُّ (المقدس!) مبنياً على اجتهادات فإن كل ما يؤخذ منه هو محل اجتهاد؛ لا تستطيع الجزم بصحته، لأن مصدره مشكوك فيه، فلا يلزمك التصديق لقصصه، ولا تاريخه، ولا أنسابه، ولا عقائده ولاهوته، وإن أردتَ أن تصدقَها وتؤمنَ بها فهذا شأنك، نعم!، شأنك أن تؤمن أن داود عليه السلام زنا بامرأة أحد جنده، ولم يكتف داود بممارسة الفاحشة والرذيلة القبيحة معها، فقتل الزوجَ بخطةٍ دنيئة، وخسيسة، لا يقدم عليها إلا الأراذل المجرمون،([3]) شأنك أن تؤمن أن لوطاً عليه السلام سقتاه ابنتاه خمراً فسكر، بل وغاب عن الدنيا، بل وزنا بابنتيه،([4]) شأنك أن تؤمن أن نوحاً عليه السلام شرب الخمر حتى تعرى، ولَعَنَ حفيدَه كنعان بن حام؛ لا لشيء سوى أن حاماً تصادفَ ورأى عورةَ نوحٍ أبيه بعد أن فعلت به الخمرُ الأفاعيل،([5]) شأنك أن تؤمن أن سليمان عليه السلام عبدَ الأصنام،([6]) شأنك أن تؤمنَ أن هارونَ عليه السلام صنعَ لبني إسرائيلَ العجلَ ليعبدوه،([7]) شأنك أن تؤمن بهذه السخافاتِ وغيرِها، وكلها ظنية الثبوت، بل كلها يقينية البطلان -ولا شك-، لأن هذه الأوصاف والأفعال لا تكون لمن اصطفاه الله تعالى برسالاته وكلامه، فبأي وجه ينهاهم عن الزنا وهو في الليل متلبس، واقع فيما نَهى عنه؟!، وبأي وجه ينهاهم عن إصابة دم حرام وهو بالنهار قاتل سفاح؟! كيف تَثبتُ له النبوةُ حينئذ؟ بل، والله إن كانت أفعالهم كما قرأت، وصفاتهم كما سمعت، فالعذر كل العذر لمن كفر بهم، بل وتصير عداوتهم وقتالهم عبادة، والمعجزة هنا لا تثبت لهم النبوة؛ لأن الخوارقَ ليست مقصورة على النبيين فحسب، بل يفعلها السحرةُ والدجالون كذلك!
ولا يد لمن يصدق هذه السخافات والبذاءات في توثيق نسبة كتابتها للمنسوبة إليهم بعد فترة انقطاع طالت بين كتابة النص المقدس، وبين وصوله إلينا في صورة مخطوطات؛ أكثرها مجهولة المصدر، والناسخ غير معصوم، بل مغضوب عليه، ملعون!([8])
ما ظنك بكتاب كتبه السفهاءُ، قتلة الأنبياء؟!([9])
ما ظنك بكتاب مخطوطاته تبعد عن كتابته بألف عام أو يزيد؟! ([10])
ما ظنك بكتاب لم تتفق من مخطوطاته اثنتان؟!([11])
[1] الطبراني في الأوسط 5548، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 2832.
[2] تفسير البغوي، 2/59.
[3] جاءت هذه القصة في الإصحاح الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني.
[4] جاءت هذه القصة الصلعاء في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين بداية من الفقرة الثلاثين حتى نهاية الإصحاح.
[5] جاءت هذه القصة في الإصحاح التاسع من سفر التكوين بداية من الفقرة العشرين، إلى الفقرة السابعة والعشرين.
[6] هذا الإفك مذكور في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك الأول بداية من الفقرة الثالثة، إلى الفقرة الثامنة، وانظر في الفقرة السادسة حيث يقول المؤلف عن سليمان: «ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه»، تشعرك هذه الكلمات أن مؤلفها لم يكن يعلم شيئاً عن الكذب الأحمق المنسوب للنبي الكريم داود.
[7] جاءت هذه القصة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج.
[8] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٦ - ٧]، والمغضوب عليهم هم اليهود، كما روى أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في تخريج الطحاوية: (594).
وهم موصوفون في الكتاب (المقدس) بصلابة الرقبة أي العناد، كما في خروج 32: 9، ومتوعدون باللعنة في مواطن كثيرة منها ما جاء في ملاخي 2: 2.
[9] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: ١١٢].
[10] بداية كتابة أسفار العهد القديم حسب زعمهم 1500 ق.م تقريباً، انظر كتاب: يوسف رياض، وحي الكتاب المقدس، الطبعة الرابعة، ص18.
في حين أن أقدم مخطوطة عبرية كاملة لأسفار العهد القديم تاريخها 1008م، وهي مخطوطة ليننجراد، فتأمل!! انظر كتاب:
A student’s guide to textual criticism of the Bible; its history, methods, and results. Paul D. Wegner, p.159.
[11] يقرر دوجلاس ستيوارت هذه الحقيقة حين يقول في ألم: «لا يوجد إصحاح واحد في الكتاب المقدس تتطابق كلماته في كل المخطوطات القديمة»، انظر:
Douglas Stuart, “Inerrancy and Textual Criticism,” in Inerrancy and Common Sense, ed. Roger R. Nicole and J. Ramsey Michaels, P. 98.
بارك الله فى العلم والجهد ا/ أحمد سبيع
ردحذفدمتم ودام العطاء موصولا
وفيكم بارك الله؛ وجزاكم خيراً.
حذف